Apr 23, 2018

الخيال العلمي عند ستيفن سبيلبرغ


فيلم للرأس وآخر للجيب | محمد رُضـا


عندما أقدم المخرج ستيفن سبيلبرغ على القفز من «جوراسيك بارك» إلى «قائمة شيندلر» في غضون عام واحد (1993) أثار، لجانب الإعجاب الكبير والنجاح الأكبر لكلا الفيلمين، حفيظة البعض وحيرته. فالفيلمين متباعدان تماماً: الأول موجه لجمهور «البوب كورن» الذي لا يكترث لما حدث في أربعينات القرن العشرين، والثاني فيلم جاد لجمهور رصين. والإختلاف ليس أساساً إختلاف كل جمهور عن آخر، بل في كنه وكيان كل فيلم على حدة.
هذه القفزة من الترفيه إلى التفكير تقع حالياً للمرة الثانية. بعد ثلاثة أشهر من تحقيقه فيلماً حول متاعب الإعلام والسياسة في مطلع السبعينات عنوانه «ذا بوست»، يعود بفيلم يقع على بعد 20 ألف فرسخ بحري عنوانه «رَدي بلاير وَن» (Ready Player One). «ذا بوست»، كما «قائمة شيندلر»، فيلم للرأس (بصرف النظر عن إيجابيات وسلبيات كل منهما) وفيلم «رَدي بلاير وَن» للجيب. لكن المفارقة بالطبع هي القفزة الجديدة بين الجاد والترفيهي من دون رمشة عين.
زمنياً، الباع شاسع أيضاً. ما بين مطلع السبعينات، كما الحال مع «ذا بوست»، ومنتصف القرن الحالي نحو 74 سنة. «رَدي بلاير وَن» ينقلنا إلى سنة 2045 بعدما اكتظت المدن وسادت الحياة الإفتراضية. هذه الحياة بات لها مكان أسمه «الواحة» أسسه مخترع أسمه هوليداي (مارك ريلانس) الذي رحل قبل بدء القصّـة لكنه يعود من خلال تسجيلات مصوّرة ليضع الأسس التي عليها سيتنافس الطامحون لوراثة مملكته الإلكترو- إفتراضية. بين هؤلاء الشاب الصغير وايد ووتس (تاي شريدان الذي شوهد مؤخراً في «قتل الغزال المقدّس» ليورغوس لانتيموس) الذي يعيش، مثل سبيلبرغ، ما بين الواقع والخيال في عالم تستطيع فيه أن تتقمص أي شخصية تريد في أي وضع تتمناه وتعيشه على النحو الذي ترغبه. للنجاح في اللعبة التي أسسها هوليداي على خمسة شخصيات أن تتآلف (بقيادة وايد) وتنخرط في العمل لحل ألغاز متعددة في زمن قصير. هذا شرط للفوز أولاً بثلاثة مفاتيح سحرية ولاحقاً ببيضة عيد فصح وبهذين الفوزين سيتمكن الفائز من امتلاك «الواحة»

• Red Player One

الحكاية مأخوذة عن رواية وضعها إرنست كلاين وهي في الصميم لا تختلف كثيراً عن تلك التي وضعها رولد دول تحت عنوان «تشارلي ومصنع الشوكولا» سنة 1964 وتم نقلها إلى الشاشة عدة مرّات. الإختلافات تكمن في التفاصيل لجانب أن رواية دول هي فانتازية بينما كلاين كتب ما يوصف بالخيال العلمي. هذا النوع الذي أشتغل ستيفن سبيلبرغ عليه ست مرات حتى الآن كمخرج، وأضعاف ذلك كمنتج (مثل سلسلة «ذا ترانسفورمرز» لمخرجها مايكل باي).

مفادات وأبعاد
نستبعد هنا سلسلة «جيروسيك بارك» (ثم «جيروسيك وورلد») كونهما يتعاملان والخيال وليس العلم على عكس أفلام سبيلبرغ المتوالية في سينما الخيال العلمي التي بدأت سنة 1977 بفيلم «لقاءات قريبة من النوع الثالث» واحتوت بعد ذلك على «الخارج عن الأرض» (معروف بـ E.T. The Extra Terrestrial) سنة 1982 ثم «ذكاء إصطناعي» (2001) و«تقرير الأقلية» (2002) و«حرب العالمين» (2005) وصولاً إلى «رَدي بلاير وَن».
دوماً ما كانت أفلام الخيال العلمي ستاراً لموضوع كامن في ثنايا الأفكار المطروحة فيه. سبيلبرغ التهم أفلام الخمسينات من هذا النوع وهذه كانت مثالية في حملها أبعاداً حول الحرب الباردة والغزو المرتقب من الشيوعيين إذا ما لم يوحد الأميركيون جهودهم للذود عن البلاد. الخطر الشيوعي تمثل في غزاة من الكواكب الأخرى تريد أن تطيح بالأسس الإنسانية للعالم الحر لكنها تشهد مقاومة باسلة من الأفراد العاديين. أكثر هذه الأفلام تعبيراً عن هذا الوضع كان «غزو مختطفو الجسد» Invasion of the Body Snatchers لدون سيغل (1956).
سيغال شاهد هذا الفيلم  وسواه مراراً في نشأته وانتظر الفرصة الملائمة لتحقيق أول فيلم خيال علمي له وهو «لقاءات قريبة من النوع الثالث» (Close Encounters of the 3rd Kind)  وهو كان ثالث فيلم حققه للسينما (أي مع استبعاد أفلام طويلة حققها للتلفزيون ولو أنها عرضت خارج الولايات المتحدة في صالات السينما العالمية مثل «مبارزة»، 1971) ولو أن سبيلبرغ أنجز فيلماً فقير الإنتاج للغاية سنة 1964 (عندما كان عمره لا يتجاوز السابعة عشر أسمه Firelight) عرضته تجارياً صالة واحدة واستثناه النقاد من قائمة أفلامه الفعلية.
«لقاءات قريبة...» حوى ثيمة البيت المنهار بفعل خلاف الزوجين وانطلاق صبي ورجل (كل على حدة) صوب جبل يدركان أن مركبة فضائية ستحط قربه. هذه الثيمة مستوحاة مما عصفت به أحداث سبيلبرغ العائلية ذاتها، لكن البعد الأهم هو الإيحاء بأن أهل الفضاء ليسوا غزاة، كما ساد المفهوم السابق، بل مخلوقات أكثر ذكاءاً من الإنسان. 
«الخارج عن الأرض» (1982) عاد للتركيبة ذاتها حيث المخلوقات ذكية لكنه أضاف إليها صفة البراءة التي تلتقي وبراءة الأطفال الذين يكتشفون وجود أحد هذه المخلوقات (نُعت بـ إي تي»). في هذين الفيلمين رغبة المخرج توفير صورة مغايرة لما تم إنجازه سابقاً حول الكائنات الغريبة (Aliens) التي تثير الخوف والدمار

• The War of the Worlds

لكن هذا التباعد عن الأمس كان مرحلياً بدليل فيلمه الخامس من هذا النوع وهو «حرب العالمين» (War of the Worlds). هنا نجد راي (توم كروز) منفصلاً عن زوجته (الخلاف الزوجي في أكثر من فيلم آخر من أعمال سبيلبرغ التي تتجاوز الستين مخرجاً) ولديه ولدين يسعى للدفاع عنهما والحفاظ على حياته من غزو لقوى إلكترو-ماغنتيكية تصيب الأرض وتتفق عن وحوش ميكانيكية هائلة. 
الفيلم مأخوذ عن آخر أنجزه بايرون هاسكِن سنة 1954(عن رواية لجورج بال لكن في حين أن الفيلم السابق كان حول مواجهة بين الغزاة الملحدين ممثلين بصحون طائرة نجدهم الآن ينبعون من تحت الأرض في إيحاء من أن الغزاة هم من أهل الوطن الأميركي. ربما من المهاجرين. كما توحي داكوتا فانينغ حين تسأل أبيها كروز: "هل هم إرهابيون؟". كذلك ففي حين كان النصر حليف الأميركيين المعتصمين داخل الكنيسة (كرمز للإيمان) في الفيلم السابق، فإن النصر هنا حليف مقاومة العلم بالعلم.
«ذكاء إصطناعي» و«تقرير الأقلية» مختلفان. الأول (عن سيناريو اشتغل عليه ستانلي كوبربك  كفيلم قادم لم ينجزه) عن صبي مصنوع علمياً يبحث، مستقبلاً، عن عاطفة إنسانية تحتويه والثاني عن تجسس السلطات على الأفراد العاديين ما يذكرنا بواقع المؤسسات الإلكترونية الحالية.

«رَدي بلاير وَن» ليس توليفة تابعة لأي من هذه الأفلام الا بكونه فيلم خيال علمي. لكن فحواه، وعلى عكس الأفلام السابقة، هو الترف الصناعي المستقبلي مع خيط من الصراع بين الإنسان والعلم لا يتوجه به سبيلبرغ صوب إدانة أي طرف.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
تقييم أفلام سبيلبرغ الواردة
 Close Encounters of the 3rd Kind   ***
 E.T. The Extra-Terrestrial   ***
 A.I: Artificial- Intelligence ****
Minority Reports  ****
 War of the Worlds   ***
  Ready Player One    **
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Apr 22, 2018

ميلوش فورمان

اشتغل على يمين النظام ويساره
| محمد رُضا |

يبلغ مجموع ما حققه المخرج ميلوش فورمان الذي توفي يوم الجمعة الثالث عشر من هذا الشهر، سبعة عشر فيلماً طويلاً، بالإضافة إلى فصل من فيلم عنوانه «رؤية ثمانية» (1973) وفيلمين قصيرين على الأقل الأول مطلع مهنته سنة 1964 والثاني سنة 1971.



حتى العام 1965 عمل فورمان في نطاق السينما التشيكوسلوفاكية كونه وُلد هناك في الثامن عشر من سنة 1932 بإسم يان توماس فورمان في بلدة صغيرة أسمها كاسلاف تقع فوق أرض منبسطة شرقي العاصمة براغ. بعد سنوات قليلة وجدت تشيكوسلوفاكيا نفسها محتلة من قِـبل الألمان وسيق يهودها إلى المعسكرات فقضى والديه فيها وتربى ميلوش في إحدى مدارس اليتامى. بعض حياته عكسها المخرج لاحقاً في «بلاك بيتر» و«عشق شقراء».
بعد الحرب أخرج فيلماً تسجيلياً طويلاً بعنوان «الفانوس السحريسنة 1960. فيلمه الروائي الأول «بلاك بيتر» ورد بعد عامين، تلاه بفيلم تسجيلي آخر عنوانه «مزاد» (1964)  ثم «عشق شقراء» الروائي سنة 1965 وتلاه بـ «كرة الإطفائيين» الذي كان آخر فيلم ينجزه في بلاده.
باقي أفلامه جميعاً حققها في الولايات المتحدة التي وصل إليها عبر باريس ومعه سيناريو يدور حول أحداث العام 1968 عندما غزت الجيش الروسي بلاده. لكن ذلك السيناريو لم يقنع أحداً في هوليوود ولم تتبناه شركاتها ما دفعه للبحث عن عمل آخر لا علاقة سياسية له مع ما كان يود التعليق عليه ووجد ضالته سنة 1971 عندما كتب وأخرج «إقلاع» (Taking Off)، كوميديا إجتماعية عن التحرر الجنسي وهوى الشباب والهوة الشاسعة بين جيله وجيل آبائه. 

طار عالياً
ميلوش كان محظوظاً إذ أنه وصل إلى الولايات المتحدة في الفترة التي أرادت فيها شركة يونيفرسال المعروفة إنتاج عدد من الأفلام الصغيرة التي تمنح القرار فيها إلى المخرجين. هذا تم بعدما شهدت نجاح فيلم «إيزي رايدر» لدنيس هوبر الذي قامت منافستها كولومبيا بتمويله وحقق لها أرباحاً طائلة ما حفّـز يونيفرسال تمويل بضعة أفلام من هذا النوع بينها «ركض صامت» لدوغلاس ترومبل (1972) و«المأجور» (The Hired Hand) لبيتر فوندا (1971) و«ميني وموسكوفيتز» لجون كازيفيتيس (1971) كما «إقلاع»  في العام نفسه.
لم ينجح الفيلم تجارياً لكنه حمل دمغة أسلوبية ساخرة تكررت لاحقاً في كل أعماله. فورمان لم يكن، في هذا الفيلم، ليقف لجانب سلطة الأهل على الأولاد، بل لجانب الحرية التي يطلبها الأولاد لأنفسهم بعيداً عن السُـلطة. وهذا التداول بين الفرد والسُـلطة ميّـز كذلك معظم أعماله اللاحقة في الوقت الذي استمدّه من مشاغباته في إطار السينما التشيكية سابقاً عندما بدأ بإنجاز أفلام توحي برفضه نظام المؤسسات. هذه الأعمال الأولى بلغت ذروتها في فيلم «كرة الإطفائيين» الذي ووجه بالمنع.
لكن فشل «إقلاع» التجاري، وإلى حد معين النقدي أيضاً، لم يمنع من ضمّه إلى مجموعة المخرجين الذين قبلوا مهمة تداول رؤاهم السينمائية في فيلم «رؤية ثمانية» التسجيلي سنة 1973. هذا وضعه جنباً إلى جنب مخرجين سبق وأن تأسسوا منذ بضع سنوات من بينهم آرثر بن و كون إيتشيكاوا وجون شلسنجر.
إثر ذلك، وضمن حالة الرغبة في منح المخرجين حرية أوسع لاتخاذ القرارات الفنية مما تلا لاحقاً، تم إختياره لتحقيق نسخة سينمائية من رواية كن كيسي «واحد طار فوق عش الوقواق» سنة 1975. تلك الرواية دارت حول مصحة للمجانين والمطلوب معالجتهم عصبياً وم تحتويه من عنف حيال المرضى تبعاً لنظام قاس. الرواية التي نشرت سنة 1962 تحوّلت إلى مسرحية بعد سنوات قليلة قام خلالها مايكل دوغلاس بتمثيل دور مكمورفي الذي قام به جاك نيكولسون في الفيلم. كلمتا «عش الوقواق» تؤخذان دلالة على «مصحة المجانين» ما يعطي العنوان ذلك البعد المقصود.

• One Flew Over the Cuckoo's Nest

ودوغلاس هو من قرر إنتاج نسخة سينمائية وحسناً فعل أن جلب إلى الفيلم ميلوش فورمان ليس لأن فورمان برهن عن ملكيّـته الفنية بقدر أنه كان برهن منذ أعماله المعادية للنظام الشيوعي في بلاده بأنه خير من ينقل روح الفيلم القائمة على حث المجانين التمرد ضد سُلطة السجانين. في هذا الإطار كان فورمان تكملة لما بدأه الروائي كن كيرسي وعلى الخط نفسه. 
ماكمورفي كان يعرف ما يحتاجه رفاقه في المصحة أكثر من مديرة المصحة ذاتها. عوض أبر التهدئة والحبوب المعالجة للأعصاب. عوض الكبت والحرمان والعقاب وعوض حجب الحريات، أراد تحرير رفاقه من وضعهم البائس كما كان سبارتاكوس حرر عبيد روما. بذلك جسّدت الشخصية الحالتين الفردية كما التشخيص الشامل للإرادة الفردية (ثم الجماعية) ضد النظام.
جاك نيكولسون كان الإختيار الرائع ذاته. بعدما عاين دوغلاس احتمال قيامه بالدور الأول تم التفكير بجيمس كان للدور، ثم ببيرت رينولدز قبل أن يرسي الدور على نيكولسون. الميزة هنا هي أن نيكولسون ينتمي إلى تمثيل متحرر يلائم الدور الذي يؤديه كقائد ومحفّـز للثورة على نظام المصحّـة. الممثلة لويز فلتشر، التي لعبت شخصية مديرة المصحة الصارمة، انتمت إلى التمثيل المنهجي المنضبط لذلك حمل كل من هذين المنهجين المتناقضين معنى إضافياً للمجابهة التي تقع في الفيلم بين من تمثل السُـلطة والنظام وبين من يمثل الثورة والتحرر.
الميزة الأخرى المهمّـة لهذا الفيلم الذي حظى بنجاح مستحق على أكثر من صعيد، هو الإستعانة بممثل معروف يكون محور العدد الكبير من الممثلين غير المعروفين (ليس على النطاق نفسه) ما يجعل من القيادة السياسية المناطة به سهلة الوصول إلى المشاهدين. لكن في المقابل لم يرد المخرج تقديم فيلم من بطولة فردية، لذلك نلاحظ في الفيلم لا إسهام الشخصيات المختلفة كلها (معظمها من المرضى) الملحوظ فقط، بل قيام المخرج بكسر حدة البطولة الفردية بلقطات عديدة للآخرين مزروعة في شتى الأحداث حتى ولو كانوا مجرد حاضرين لما يقوم مكمورفي القيام به.
النتيجة خمس أوسكارات ذهبت لهذا الفيلم  هي أوسكار أفضل فيلم وأفضل سيناريو وأفضل إخراج وأفضل ممثل أول وأفضل ممثلة مساندة (فلتشر). والغالب إنه لولا استبدال مدير التصوير هاسكل وكسلر (بعد شهر من التصوير) بآخر هو بِل بتلر الذي توقف عن العمل أيضاً ليحل مكانه وليام أ. فراكر قبل بضعة أيام من نهاية العمل، لكان حظ الفيلم في نيل أوسكار أفضل تصوير ارتفع عما كان عليه.
في كل الأحوال فاز بها جون ألكوت عن تصويره الممتاز لفيلم ستانلي كوبريك الرائع «باري ليندون».

أبواب القانون
إذ أسس فورمان عبر هذا الفيلم وضعه كمخرج ضد النظم لابد من التذكير بأن هذا الوضع كان ممارساً في الفترة السابقة التي أمضاها في تشيكوسلوفاكيا والتي أحالته، أمام النظام، لإعتباره من فلول البرجوازية اليمينية. في الولايات المتحدة، فإن الهامش العريض من حرية الرأي جعله ينقل عدائه للنظام إلى الداخل الأميركي (المؤسسة الأميركية ذاتها) وبذلك انتمى إلى حركة يسارية وليبرالية كانت نشطة آنذاك.
فيلمه التالي Hair كان مأخوذاً عن كتاب أغاني تحوّل إلى مسرحية غنائية مشهورة قبل أن يدلف فورمان إليها ويحوّلها إلى فيلم من بطولة بفرلي دأنجلو وجون سافاج (برزا في تلك الحقبة وانتهيا بنهايتها).
الصراع هنا متكرر. «هير» يدور حول الشاب المتمرد الذي يترك عائلته ويهرب من التجنيد الإجباري وينضم إلى مجموعة من الهيبيين. عندما يتعرف على الفتاة شيلا ويقع في حبها، يكتشف بأنها تنتمي إلى عائلة ثرية لكنها في الوقت ذاته تشاركه تطلعاته التحررية.
الموضوع هو تكرار لما أنجزه المخر في عمله الأميركي الأول «إفلاع» مع اختلافين مهمين الأول أن هذا الفيلم ورد من خلفية موسيقية ومسرحية ناجحة، والثاني إنه كان إنتاجاً أعلى تكلفة بعشر مرات من الفيلم السابق (11 مليون دولار). لكن نجاحه التجاري كان أيضاً محدوداً في الولايات المتحدة (15 مليون دولار) وخارجها (أقل من ذلك).

• Ragtime

سنجد فورمان وقد عاد بعد عامين لتحقيق فيلم أكبر إنتاجاً عنوانه «راغتايم» (Ragtime) عن أحداث وردت في رواية لإدغار لورنس دوكتوروف التي كانت نسيجاً من الواقع والخيال في فترة مطلع القرن العشرين حول عازف بيانو أسود (هوارد رولينز) يطالب بكرامته المهدورة بعدما حطم رجال الإطفاء سيارته ما دفعه، بعدما طرق أبواب القانون بلا فائدة، إلى احتجاز رهائن إلى أن يستسلم رئيس الإطفائيين (الراحل كنيث مكميلان) إليه وتصليح سيارته لتعود كما كانت عليه. 
لكن هناك خيوطاً أخرى كثيرة في الفيلم وأكثر منها في الرواية ذاتها التي تنتقل بين الشخصيات والأحداث مشكلة حبكات متعددة. فورمان يختار ما يجعل الفيلم إكثر إلتحاماً. يعرض حياة ومواقف جانبية محدودة ويضع حكاية العازف الموسيقي الباحث عن عدالة تنصفه في الوسط. ثم يأتي برئيس بوليس سابق كان اعتزل ويتم إختياره للتفاوض مع هذا الموسيقي الثائر استناداً لخبرته.
الممثل الذي يلعب دور رئيس البوليس المتقاعد والمُـستعان به من جديد هو ممثل كان تقاعد واستعين به ليقود الفيلم وهو جيمس كاغني الذي كان آخر فيلم مثله كوميديا عابرة أخرجها بيلي وايلدر بعنوان «واحد، إثنان، ثلاثة» سنة 1961، أي قبل عشرين سنة من هذا الفيلم.
عودته خدمت الإعلام حول الفيلم أكثر مما خدم الفيلم نفسه. إدارة فورمان للعمل بقيت منضبطة وملاحظاته حول التوزيع الإجتماعي للشخصيات ناجحة. ومع أن عدداً من نقاد ذلك الحين أعاب اختصار عالم دوكتوروف بهذا الشكل، الا أنه لم يكن اختصاراً اعتباطياً و-لمن قرأ الرواية- جاء مبرراً ومنطقياً.

أماديوس
الذروة المماثلة لـ «واحد طار فوق عش الوقواق» تجسدت في فيلمه فورمان اللاحق «أماديوس» عن مسرحية وضعها كاتباً ومخرجاً بيتر شافر وشاهدها فورمن على الخشبة البريطانية وبهرته. صرّح لاحقاً أنه تعود، من أيام حياته المبكرة في براغ، الشعور بالتثاؤب كلما فرض عليه مشاهدة مسرحية أو فيلم يدور حول عازف موسيقي. في العام 1990 التقيت به في فندق «ذا فور سيزنز» في منطقة بيفرلي هيلز وأخبرني ما حدث حين شاهد مسرحية شافر تلك:
"دخلتها من دون أي توقعات وخرجت منها وقد اكتشفت أن العمل الفني لحياة موسيقار ما قد تصلح كثيراً لفيلم يختلف عما كنت تعودت عليه. أعتقد أن ذلك كان قصوراً مني. أقصد أنني لم أكن أثق بمثل هذه البيوغرافيات لكن لا بأس، قلت لنفسي وأنا أقرر أن مشروعي المقبل هو تحويل هذه المسرحية إلى فيلم سينمائي».

• F. Murray Abraham: Amadeus

«أماديوس» (من ثلاث ساعات) هو أكمل فيلم أنجزه في حياته. عمل فني رائع عن شخصيتين فنيتين رائعتين كذلك: وولفغانغ أماديوس موتزارت (توم هولسي) وغريمه أنطونيو سالييري (فريد موراي أبراهام).
يحيط الفيلم بالسنوات العشر الأخيرة من حياة موتزارت (الممتدة ما بين 1781 و1791) التي شهدت قيام سالييري بمحاولات النيل من قيمة موتزارت في المحافل كافة بسبب غيرته من نجاحه.  فورمان يصوّر موتزارت (وبفضل ملامح هولسي الصبيانية) منفتحاً ومبتسماً ومتفانياً في موهبته، ويمنح سالييري (وبسبب من تقاسيم وجه الممثل إبراهام المناسبة) صورة تشي بالنوايا السيئة التي يضمرها صوب غريمه. لكن فورمان يمنح المشاهد فرصة التعاطف مع سالييري من ناحية وتقدير موهبة موتزار الفنية من ناحية معاكسة. الناتج هو أن التعاطف مع سالييري ارتفع بين المشاهدين أكثر من درجة التعاطف مع موتزار على الرغم من أن الأخير هو الضحية.
هذا ناتج بدوره عن أنه من السهل فهم منطلقات ومشاعر سالييري ومن الصعب مواكبة التكوين الشخصي والفني للعبقرية المتمثلة بموتزار. هذا إلى حين يعترف سالييري (والفيلم مرو بصوته) بأنه وقف وراء وفاة موتزار المبكرة والمفاجئة (في سن الخامسة والثلاثين).
إنه وضع مزعزع ذلك المرتسم على الشاشة من زاوية هذا الصراع واستدلالاته، لكن معالجة فورمان للفيلم بأسرها نجحت في إحتواء سلبيات هذا الوضع كما في منح العمل ميزته الأساسية وهي أنه لا يتوجه فقط الى هواة موتزار ولا حتى إلى هواة فن الموسيقى عموماً، بل، أساساً، إلى الراغبين في مشاهدة دراما تراجيدية حول النجاح وما تجلبه من غيرة الآخرين المفتقرين إلى المستوى ذاته من القدرات الفنية. هذه الناحية تجعل الفيلم مستساغاً من الجمهور العام أكثر وأكثر في الوقت الذي يقدر فيه الناحية الفنية العامّـة وقدرة الفيلم على جذب غير المهتم بالموسيقى عموماً ليشاهد فيلماً موسيقياً من هذا النوع. 
في حين لا غبن في ذلك من ناحية مبدأية، إلا أن صلب العمل يبقى، بمزيجه المؤلف من 70 بالمئة خيال و30 بالمئة واقع يشبه العسل المغشوش بالسكر أو الماء. على ذلك، وفي حين فشل «راغتايم» في ثماني ترشيحات أوسكار، نجح «أماديوس» في قطف ثمانية أوسكارات من بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل (ف. موراي أبراهام).
بعده بقي فورمان في التاريخ واتجه سنة 1989 إلى تحقيق فيلمه «فالمونت» عن رواية الكاتب الفرنسي كودرلوس دي لالكوس «علاقات خطرة» (Les Liaisons Dangereuses). هنا مرّة أخرى يحيد المخرج عن الشخصية الرئيسية بعض الشيء. فالمونت (كولين فيرث)، الأرستقراطي الذي يخطط للإيقاع بفتاة بريئة (فيروزا بوولك) فقط ليربح الرهان الذي عقده مع عشيقته (أنيت بانينغ) يبقى المحور لكن الكثير من المشاهد تُـصرف على شخصية الفتاة ومرجعيتها الإجتماعية. لا خطأ في ذلك خصوصاً وأن الحياكة ماهرة تسمح للمخرج ولممثليه استيعاب شخصيات بأقنعة متعددة ومثيرة عموماً.
لكن في هذا الإطار واجه الفيلم مشكلة أثرت على متلقيه وعلى إنتاجه أيضاً، فقبل عام واحد من إطلاق «فالمونت» قدم البريطاني سيفن فريرز فيلمه (الأفضل) «علاقات خطرة» عن مسرحية كريستوفر هامبتون المقتبسة عن الرواية ذاتها. هذا ما جعل «فالمونت» يصل متأخراً ليقتطف ما تبقى من مشاهدين مهتمين. لكن، من ناحية أخرى، يكشف الفيلم عن أن الرغبة في التحدي الذي صاحب أعمال المخرج فورمان الأولى شحت. الفيلم يقبل أن يلعب دور الراوي بأقل قدر من تفعيل الدراما مع إبقاء المشاعر غالباً محبوسة في صدور أصحابها.
في كل الأحوال أثار فورمان الإعجاب العام من جديد عندما انبرى لإخراج «الشعب ضد لاري فلينت» (1996)

• People vs. Larry Flynt

مع هذا الفيلم نرى فورمان وقد عاد إلى الموضوع الآثر لديه: الفرد ضد المجتمع والنظام. لاري فلينت، في الأصل، لم يكن سوى ناشر مجلة خلاعية (قام به وودي هارلسون) أقيمت ضد عدة قضايا قضائية (في السبعينات) نجحت في منع صدور مجلته من حين لآخر وهددت بسجنه مرات. كما في «راغتايم» و«أماديوس»، مزج المخرج الحقيقة بالخيال كما يشاء. بالتالي لا يمكن التأكد من أي شيء نراه سوى الاساسيات. وفي فيلم يأخذ موقفاً مؤيداً لشخصية فلينت، على أساس أنه الفرد الذي يتحدّى النظام، فإن المبدأ الأخلاقي يأتي في أسفل اهتمامات المخرج وفيلمه. 
في كل الأحوال، وعلى الرغم من براعة مؤكدة لوودي هارلسون في تأدية الدور، الا أن الفيلم الذي أريد له الإحتفاء بإنتصار الإرادة الفردية تلك يتلاعب بالحقائق كما يرغب ثم ينتهي إلى عمل يثير الضجة وحب المتابعة كونه دراما خفيفة إلى حد أنها تصلح للترفيه أكثر من النظر إليه كعمل فني.

فيلمه التالي، «رجل على القمر» (2006) ثم فيلمه الأخير «مسيرة مستأهلة» (A Walk Worthwhile) عملان دون مستوى أي من الأفلام السابقة. كون «مسيرة مستأهلة» تم تحقيقه قبل تسع سنوات وحقيقة أن ميلوش فورمان حينها كان بلغ السابعة والسبعين من العمر يكشفان عن أنه لم يكترث ليواصل العمل بالجهد ذاته الذي قام به مخرجون لم تمنعهم سنوات الحياة المتقدمة من ممارسة ما يحبون أمثال كلينت ايستوود (87 سنة) والبرتغالي مانويل دي أوليفييرا الذي مات، سنة 2015، عن 107 أعوام وهو ما زال يكتب ويخرج.