| إبراهيم العريس: د. سترانجلَڤ |


مجانين العالم والقنبلة النووية | إبراهيم العريس
  


|*|  من المؤكد أن العالم لم يبد وكأنه وصل الى حافة الهاوية والامحاء الشامل كما حاله اليوم. فللمرة الأولى ومنذ عقود طويلة، ها هو الاستخدام المعمّم للسلاح النووي يبدو ماثلاً، الى درجة لا يبدو معها بعيداً اليوم الذي تضغط فيه إصبع مجنون على ذلك الزر الشهير الذي كان دائماً ما يبدو من بنات خيال أكثر المبدعين جنوناً. وهذا ما يحدونا اليوم، وقد انطلق الجنون النووي متأرجحاً بين واشنطن وموسكو، وصولاً الى طهران وبيونغيانغ، للعودة الى ذلك الفيلم الكبير الذي روّع العالم وهو يضحك ويحاول إضحاكه عبر فرضية لم تعد تبدو اليوم بعيدة: فيلم «دكتور سترانجلاف... للمخرج الأميركي الذي كان مقيماً في بريطانيا قبل رحيله بنحو عقدين.


|*|   فدائماً في معرض تذكيرنا بهذا الذي يعتبر واحداً من أكبر كلاسيكيات السينما العالمية في النصف الثاني من القرن العشرين، تذكر الوسائل الإعلامية المتخصصة أن من بين كبار الذين أثر فيهم ذلك الفيلم «الحربي «المبني على أسلوب الخرافة العلمية- السياسية، الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان (الذي كان من ممثلي هوليوود في شبابه)، الذي كتبت الصحف يوم وصوله الى البيت الأبيض، عن علاقته بالفيلم ما يأتي: «إن الإشاعة التي تحدثت عن أن الرئيس ريغان ذهل حين تسلم سلطاته الرئاسية في العام 1981، واكتشف أن الغرفة النووية في البيت الأبيض لا تشبه على الإطلاق الغرفة المبنية في هذا الفصل، يجب ألا تدهشنا أبداً». وأضافت إحدى تلك الصحف قائلة إن «الفكرة يجب أن تثير قلقنا لاحقاً... مع شخص مثل جورج بوش مثلاً ...». وكان من الواضح أن تلك الصحيفة إنما كانت تغمز في هذا القول من قناة الرئيس الأميركي الأسبق الذي كان يخوض، حين نشرت الفقرة، حرباً في العراق كان يمكن أن تتحول، تحت ضغط الظروف أو تحت ضغط جنون ما، الى حرب نووية. والحقيقة أن صحافة من هذا النوع ما كان من شأنها إلا أن تعود الى الموضوع نفسه اليوم، إزاء ما يحدث على مسرح العالم في عهد الرئيس ترامب ونظيره الموري الشمالي، بل ربما أيضاً في عهد «القيصر» الروسي المتجدد فلاديمير بوتين الذي يبدو أن نهمه النووي والسلطوي في آن معاً، لا يقل عن نهم كل الرؤساء النوويين الذين سبقوه الى عروش العالم والى إثارة الرعب لدى عباد الله الصالحين.


|*|  والحال أن هذه الفكرة نفسها، فكرة جنون السلطة وجنون القنبلة وجنون الكلام السياسي الذي لا معنى له وإن كان من نتائجه المحتملة- والتي تزيد احتمالاتها اليوم أكثر مما في أي وقت مضى، أن يؤدي الى تضافر الجنون والقنبلة والجنون السلطوي في بوتقة واحدة تجعل نهاية الجنس البشري كله على المحك، هذه الفكرة هي، بالتحديد، الفكرة الأساس الكامنة خلف هذا الفيلم الذي نتحدث عنه هنا، الفكرة التي جعلت كثراً يأتون على ذكره، بل ان محطات تلفزيونية عدة سعت الى عرضه وتكرر ذلك العرض، منذ مناسبة حرب جورج دبليو في العراق، حتى الآن ويبدو أن الإقبال عليه سيكون أكثر وأكثر لمناسبة التوترات الراهنة. وهو أمر يحصل، على اي حال بكثرة، عند كل أزمة دولية خطيرة، ذلك أن «دكتور سترانجلاف» يقوم على فكرة إطلاق صاروخ نووي من أراضي الولايات المتحدة ليدمر الأرض ومن عليها. وهي فكرة استعيرت كثيراً في أفلام لاحقة، لكن «دكتور سترانجلاف» ظل هو مرجعها الأساسي.


|*|  ونعرف ان هذا الفيلم قد حققه في بريطانيا، على رغم ان أحداثه المفترضة تدور في الولايات المتحدة، المخرج الاميركي الكبير ستانلي كوبريك، في العام 1963 اي بعد مبارحته وطنه الأصلي، غاضباً على سياسته وعلى «ضروب القمع الفكري» المستشرية فيه، بحسب قوله، ليلتجئ الى بريطانيا حيث عاش وعمل بقية سنوات حياته. والفيلم، وعنوانه الكامل «دكتور سترانجلاف أو كيف تعلمت ان أكف عن القلق وأحب القنبلة»، من الواضح ان كوبريك شاءه ان يكون وصية سياسية ساخرة أبدعها ضد جنون الحرب والقنبلة النووية الذي كان مستشرياً في الولايات المتحدة خلال تلك الحقبة من الحرب الباردة. والحال ان الاميركيين لن يغفروا له ابداً تلك السخرية، اما هو فإنه واصل ثأره منهم في الكثير من افلامه التالية والتي ظل يحققها حتى رحيله قبل سنوات قليلة، ويعتبر كل منها تحفة سينمائية استثنائية، من «2001 اوديسة الفضاء» الى «عيون مغمضة على اتساعها»(1998 مروراً بـ «البرتقال الآلي» و «باري لندن» و»اشراق» و «سترة معدنية كاملة»... وهو صور كل هذه الأفلام في بريطانيا، على رغم ان أحداثاً معظمها يدور في أميركا، ذلك انه ظل، حتى رحيله، يرفض العودة الى وطنه القديم.


|*| «دكتور سترانجلاف» هو، إذاً، الفيلم الذي أوصل فيه كوبريك سخريته من الولايات المتحدة وسياستها وقنبلتها الى مستويات قصوى، في الوقت الذي حافظ فيه على موضوعة الجنون التي غالباً ما شكلت هاجسه السينمائي الاول. اما الجنون هنا، فإنه جنون السياسة الأميركية وجنون القنبلة الاميركية. وأما الموضوع فيدور من حول الجنرال ريبر، قائد قاعدة باربلسون العسكرية الاميركية الذي، اذ يقتنع بأن ثمة مؤامرة شيوعية حيكت لتدمير «العالم الحر» واحتلاله، يطلق هجوماً بقاذفات القنابل النووية من طراز «ب - 52» لا يعرف غيره شيفرة اطلاقها السرية، في الوقت الذي يقطع فيه كل اتصال خارجي مع القاعدة التي يقودها. وحين يعلم الرئيس مافلي بالنبأ الخطير، يستدعي السفير السوفياتي الى البيت الأبيض ليسوي الأمر معه، ثم بناء على اقتراح قائد أركان الجيوش الاميركية تارغيدسون، الذي ينادي عادة بشن حرب نووية محدودة، يصدر أوامره بأن يشن هجوماً على قاعدة باربلسون يقوده الكولونيل بات. وهنا امام تطور الأحداث هذا يبادر الجنرال ريبر الى الانتحار مفضلاً إياه على الاستسلام، في الوقت الذي يتوصل نقيب في سلاح الجو البريطاني، الى الشيفرة السرية التي يمكن بها إعادة القاذفات الاميركية الى القواعد قبل ان تصيب أهدافها. لكن الذي يحدث هو أن واحداً من قادة الطائرات وهو الطيار كينغ كونغ، يفضل ان يواصل مهمته، في الوقت الذي يبلغ فيه رئيس الحكومة السوفياتية الرئيس الاميركي بأن بلاده ستشن هجوماً نووياً معاكساً ان قصفت أراضيها. وهنا امام هذه المعضلة التي تبدو من دون حل، لا يجد الرئيس الاميركي مافلي مناصاً من ان يستشير أحد معاونيه، وهو النازي السابق المشلول د. سترانجلاف. وهذا، وبكل برود، يعكف على اجراء حساباته وسط تلهف الرئيس وقلقه، ليبلغه في النهاية انه يتعين عليه ألا يقلق لأن الانسانية «ستكون في شكل عام قادرة على النجاة إن تمكن مئة شخص فقط من ان يختبئوا في ملجأ مقاوم للطاقة النووية لمدة مئة عام يخرجون بعدها ليعيشوا ويحيوا النوع الانساني من جديد». وفي تلك الاثناء يكون قائد الطائرة كينغ كونغ، قد ركب صاروخه النووي كما يركب رعاة البقر الأميركيون جيادهم، وفجرها ما يترتب عليه انفجار الارض كلها بما ومن عليها.


* نشرت أولاً في صحيفة «الحياة»