May 9, 2018

Cannes 2018 | 2


 «كان» يفتتح اليوم بفيلم مخرجه إيراني وتمويله أوروبي
 تاريخ السينما الإيرانية البديلة ماثل في فيلمين متناقضين

«كان»: محمد رُضـا

السؤال الذي كثيراً ما حاول النقاد طرحه وما زال موضع نظر واعتبار هو إذا ما كان الفيلم، أي فيلم، ينتمي إلى المخرج أو إلى الجهة الإنتاجية؟ بالتالي ما هي هوية فيلم «دنكيرك» لكريستوفر نولان؟ كيف يمكن أن نعيده إلى هوية المخرج البريطاني إذا ما كان التمويل، في أساسه، أميركي؟ وماذا عن أفلام رشيد بوشارب، ومنها «أيام المجد» (2006)، أهو جزائري تبعاً لهوية المخرج الأصلية أم فرنسي تبعاً لتمويله؟
الأفلام التي يمكن أن يطرح عليها هذا السؤال عديدة وتتكرر اليوم مع افتتاح الدورة الحادية والسبعين من مهرجان «كان» السينمائي بفيلم «الكل يعرف» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي حققه بتمويل أسباني غالباً ومن دون ريال إيراني واحد.

• Everybody Knows | Asghar Farhadi

لا السؤال وحده الذي يتكرر بل الخطأ ذلك لأن الذين يسندون الفيلم إلى هوية مخرجه انبروا يكتبون أن الفيلم إيراني. رغبتهم في ذلك إما سياسية أو أنهم يتوهمون أن منح الفيلم هوية مخرجه إنا تعزيز لمكانته ودوره. 

على الحياد
الذين يدركون أن المنتوج ينتمي إلى من يموّله، يعلمون أن الفيلم أسباني المنشأ، ليس بسبب استخدام اللغة الأسبانية فيه وتصويره هناك مع ممثلين أسبان، بل لأن التمويل الأساسي ورد من شركة Morena التي من بين إنتاجاتها «تشي: الجزء الأول» سنة 2008، ذاك الذي اعتبره النقاد حينها أميركياً بسبب مخرجه ستيفن سودربيرغ. و«مورينا» هي الشركة ذاتها التي انتجت فيلم أوليفر ستون«كومانداتي»
هذا التمويل الأسباني يعاونه تمويل فرنسي متمثل بشركة «مومنتو» وآخر (أصغر) إيطالي من شركة Lucky Red. واختيار أصغر فرهادي لإخراجه يعود إلى نجاح أفلامه السابقة «البائع» (2016) و«الماضي» (2013) و«إنفصال» (2011) والتزاماً أوروبياً بمؤازرة أي موهبة سينمائية بصرف النظر عن هوية صاحبها طالما أنجز عملاً أو أكثر دخل به أجواء العروض العالمية بنجاح وهذا ما فعلته أفلام فرهدي الثلاثة المذكورة. 
هذا مع العلم  أن أقدم هذه الأفلام، «إنفصال» هو الوحيد الإيراني فعلياً أنتجه فرهادي نفسه واشترت حقوقه شركة مومنتو التي انتجت له فيلمه الآخر «الماضي». كلاهما قام مهرجان «كان» بتبنيه وتقديمه في مسابقتي 2013 و2016. الأول خرج بجائزة أفضل ممثل (شهب حسيني) وبجائزة أفضل سيناريو (فرهادي) والثاني لم ينل جائزة «كانية» لكنه خطف أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام التالي.
«إنفصال» كان كذلك آخر حلقة إيرانية في أعمال فرهادي. قبله كتب أفلاماً لآخرين وأخرج أربعة أفلام فقط هي «الرقص في الغبار» (2003) و«مدينة جميلة»(2004)  ثم «ألعاب الأربعاء النارية» (2006)   و«عن إيلي» (2009).
هو مخرج ذكي عرف كيف يكتب مواضيع إجتماعية تفصح للغرب طبيعة كل شيء إيراني من دون أن يغمس في نقد النظام، ثم كيف يتوّج نجاحه لتقديم أفلام لا علاقة لها بإيران مطلقاً كما حال «الماضي» و«الكل يعرف» الذي يدور حول إمرأة (بينيلوبي كروز) هاجرت إلى بوينوس آيريس عزباء وعادت متزوّجة من أرجنتيني (خافييه باردام) لتواجه مشاكل عاطفية واجتماعية نابعة من الماضي.
فكرة الفيلم راودت فرهادي ما بعد إنجاز «الماضي» وقبل تحقيق «البائع».  والتصوير كان بدأ في صيف السنة الماضية. وهو اللقاء الثاني، في غضون سنة، بين بينيلوبي كروز وخافييه باردم  . الأول كان «إسكوبار» لفرناندو ليون دي أرانوا الذي تم تقديمه في مهرجان فنيسيا الماضي.
وبينما سيجد فريق معروف أن افتتاح دورة «كان» الحالية بفيلم من إخراج فرهادي هو إنتصار إيراني في محفل دولي، إلا أن النظرة الواقعية مختلفة تماماً. فالإنتصار الأول هي لمخرج من العالم الثالث عرف، كسواه، شق طريقه عالمياً والثاني للسينما الأوروبية التي تتبنى من يبرهن عن قدراته وتجني، عادة، إيرادات كبيرة خلال ذلك.

ضد النظام
لكن فرهادي هو المخرج الإيراني الوحيد الذي يعمل خارج إيران ويمكن له أن يعود إلى وطنه  في أي وقت يشاء. هذا على عكس أترابه الذين هم إما منتشرون ما بين ألمانيا وفرنسا والوليات المتحدة وإما عاملين ضمن النظام أو خارجين عليه وهم في هذه الحالة غير مسموح لهم بالعمل ناهيك عن السفر خارجاً.
«الكل يعرف» لن يكون الفيلم الوحيد لمخرج إيراني في «كان»، بل أحد إثنين فالمسابقة تحتوي على «ثلاثة وجوه» لجعفر باناهي، وهو مخرج محكوم عليه لا بالمكوث في دارته فحسب، بل بعدم تحقيق أي فيلم.
باناهي كان أثار سلطات بلاده عندما قام بتصوير أوضاع المرأة الإيرانية وما تعيشه من إحباط أولاً في «البالون الأبيض» (1995) الذي تحدّث عن فتاة تحول طينة الحياة الصعبة دون تحقيق أقل أحلامها المتمثلة بسمكة حمراء. «الدائرة» كان أقوى. أنجزه سنة 2000 وحاولت السلطات منع عرضه عالمياً لكنه تسلل إلى مهرجان فنيسيا (ثم تورنتو ونيويورك وثيسالونيكي بين أخرى) وفيه حديث عن ثلاث نساء تعاني من وضع مجحف بحق المرأة ومن منوال العلاقة الذكورية التي تحيط بها.
بعد فيلم عن وضع الرجل أيضاً عنوانه «ذهب قرمزي» (2003) عاد إلى موضوع المرأة فصوّر «أوفسايد» (Offside) الذي تداول التجربة المرة التي تتعرض لها المرأة إذا ما أرادت حضور مباراة كرة قدم.
في النطاق السياسي، فإن أفلام بناهي هي أصدق فعلاً ومنهجاً من أفلام محسن مخملباف (الذي يعيش في باريس الآن) والراحل عبّـاس كياروستامي معاً. كذلك هي أصدق من أفلام فرهادي التي تناولت أوضاعاً محلية كون ذاك اختار أن يموّهها بحالات تبقى شخصية يمكن لها أن تقع في أي مجتمع تحكمه التقاليد ذاتها أو القريبة منها.
بعد «أوفسايد» صدر عليه الحكم بالسجن الذي استبدل بحكم حبسه في منزله ومنعه عن العمل والسفر (طبعاً). لكن باناهي أذهل كثيرين عندما استطاع تصوير فيلم داخل منزله عنوانه «ستائر منسدلة» (2013) حول مخرج (هو) يعيش في منزله غير قادر على مغادرته وتداهمه شخصيتان قد تكون إحداهما عين السلطة المتسللة.
شهد الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان برلين. بطريقة ما، إستطاع تهريبه إلى المهرجان الألماني العريق حيث خرج بجائزة فضية. للقارئ أن يتصوّر ما يعنيه ذلك لمخرج صوّر فيلمه سرّاً وقام بتوليفه سرّاً وإرساله سرّاً إلى أحد أهم مهرجانات العالم ليعود إليه بإحدى الجوائز الأولى.
باناهي كان أسر آنذاك أن ما يمنعه من الإنتحار هو الإستمرار في تحقيق الأفلام. من دونها، قال، لن يرغب في البقاء حياً. 
لنا أيضاً أن نتصوّر ذهول السلطات عندما اكتشفت الأمر. هذا الفوز حمّس باناهي لتحقيق فيلم اخر (بالسر أيضاً) عنوانه «تاكسي» أودعه مسابقة برلين سنة 2015. 

ترحيب وهجوم
لكن قبل أن نجاري الإيحاء بأن لا يمكن منع المبدع عن العمل حتى في أقسى الظروف، يبدو أن تسلل «تاكسي» إلى قارعة الطرق المهرجاناتية ليس بريئاً من استغلال ثغرة ما في نظام الحجز عليه على الأقل. إذ كيف يمكن للمخرج تصوير نفسه سائق سيارة تاكسي والتجوال فيها ملتقطاً نماذج لديها انتقادات (مبطنة هنا) للوضع العام إذا كان هناك أمر محكمي بإبقائه في البيت؟ 
هل تسلل الفيلم فعلاً أم أن تلك الثغرة كانت مدبّرة؟ 
إثر فوزه هنأته السلطات من ناحية ثم هاجمت مهرجان برلين لأنه سمح بعرض فيلم تعتبره طهران يسيء إلى المجتمع الإيراني ويشيع على الملأ فحوى «كاذبة» عن ذلك المجتمع.
إنه أقصى ما يمكن إطلاقه من ازدواجية ورياء. من جهة تمنع المخرج من حياة طبيعية يزاول فيها عمله بحرية كاملة، ومن ناحية أخرى تقوم بتهنئته على فوزه، ثم- من جهة ثالثة- تنتقد مهرجان برلين لقيامه بعرض الفيلم!
هذا الموقف ذاته تكرر مع خروج فيلم «إنفصال» لأصغر فرهادي والتقاطه بضع جوائز توّجت بأوسكار أفضل فيلم أجنبي سنة 2012. فمن ناحية تظاهرت بالإنزعاج لفوزه لأنه «لا يمثل المجتمع الإيراني جيداً»، لكنها سعدت بكون الفيلم، الذي كان من إنتاج إيراني صرف، حمل إسم السينما الإيرانية إلى المحافل العالمية الأولى.