| قيس الزبيدي: أندريه بازان |

إشكالية الزمان والمكان:  بازان بين المونتاج والميزانسين 
قيس الزبيدي
|*| "من دون الدور الإجتماعي للسينما تصبح السينما بلا علم جمال" هذا واحد من نظريات الفرنسي أندريه بازان  المهمّـة الذي ولد في الثامن عشر من نيسان/ إبريل سنة 1918 |*|

أندريه بازان •

ينطلق بازان اصلا من الصورة الفوتوغرافية التي وجد انها تعمل " بوساطة "عدسة" على تسجيل صورة واقع في لحظة زمنية" وخلقت علاقة جديدة بالزمن، بعد أن قامت بتثبيت لحظة معينة، فللمرة الأولى تتشكل صورة العالم الخارجي بصورة آلية، وبدون تدخل خلاق من طرف الإنسان. أن أدنى رسم وأقربه للأصل لن يكون له أبدا قوة الصورة الفوتوغرافية، التي تستطيع إقناعنا والتأثير فينا؟ العدسة وحدها تجعلنا نسجل الشيء نفسه ونحنطه في لحظته الزمنية وننقذه من الفساد والتلف.  وكما يقال فأن الفوتوغرافيا هي أساس اكتشاف السينماتوغرافيا: أي الصورة المتحركة، التي سجلت الامتداد الزمني، أو  ما سماه تاركوفسكي  طباعة الزمن. و وضع بازان شعاره النظري: "احترام زمن طبيعة الفوتوغرافيا المتحركة، لكي تصبح السينما علم جمال اجتماعي،  فبدون الاجتماعي تصبح السينما دون علم جمال"

يأتي اختلاف السينما عن بقية الفنون البصرية من الصورة الفوتوغرافية التي هي العامل الأهم في إعادة إنتاج الواقع. لهذا يرى السينمائي الفرنسي ديلوك، إن السينما في جوهرها تطور للفوتوغرافيا التي فتحت الطريق أمام تطورها. كانت الفوتوغرافيا إذن أساس السينماتوغرافيا وامتداد لها. وقد مرت السينماتوغرافيا في مراحل أثيرت فيها العلاقة التي تجمع بين السينما والفوتوغرافيا، من وجهة نظر درامية وبنيوية وسيميائية. وذلك بدءاً من مرحلة العشرينيات. لقد بدأ عندئذ "التحرر" من ربقة الفنون المجاورة كالمسرح والرسم، مارا بمرحلة التحرر من الأم الفوتوغرافيا نفسها، وانتهى بمرحلة ثالثة لخصت المراحل كلها واستخدمتها وفق منهج جمالي وفلسفي خاص. 
على العكس من الألماني سيغفريد كراكاور الذي شاهد الأفلام ومن ثم كتب نظريته في مكتبة، فإن بازان  و هو ناقد ومنظر سينمائى، أسس عام 1952 مع مجموعة من النقاد والسينمائيين - ومنهم الكسندر أستروك، كلود شابرول , جان لوك غودار , فرانسوا تروفو - المجلة السينمائية النقدية الشهيرة "كراسات السينما " التى مالبثت أن تحولت الى منبر مهم للموجة الفرنسية الجديدة . كما انه كان دائماً مع أناس يصنعون الأفلام، ويناقشونها وكان يشاهد الأفلام ويكتب عن نوعيتها أو يكتشف منها نوعية جديدة. ويحاول أن يضع وجهات نظر في مجموعة مقالات كتبها وصدرت في كتاب "ما هي السينما" ترجمه للعربية ريمون فرنسيس (مكتبة الانجلو المصرية/ القاهرة 1968) وتناولت في معظمها أعمالاً سينمائية معينة.  وكان يستمد نظرياته من تأملاته وتحليله للأفلام. وكشفت موهبته النقدية العظيمة نوعية شكل الفيلم وأصول الأساليب التي تهيمن على شكله.
كانت الأسئلة عند بازان ذات أهمية أكثر من الأجوبة. وهو لا يقيم معادلة بسيطة بين الفيلم والواقع كما يفعل كراكاور، بل إنه يصف أكثر العلاقة الدقيقة بين الاثنين، بحيث يكون فيها الفيلم الخط المقارب للواقع، الخط الوهمي الذي يقترب منه المنحنى الهندسي، دون أن يلامسه أبداً. واقترح في واحدة من مقالاته الأولى "انطولوجيا الصور الفوتوغرافية": "إذا ما خضعت الفنون التشكيلية للتحليل النفسي، فإن ممارسة تحنيط الأموات قد تنتهي لتصبح عاملاً جوهرياً في إبداعاتها (...) وإن الذكرى الأولية للتحنيط تعيش في فن التصوير والسينما، التي تطبع الزمن وتحنطه. وبالتالي فان الفيلم بمثابة مومياء وإعادة عرض شبيهة بالكائن الذي يبدو تقريبا هو نفسه او حتى افضل. لان الانطباع الضوئي الساطع الذي يعرضه على الشاشة يتغير وفق حالة حضوره وغيابه الغريبة. إن تشكيل الفيلم لنسيج مواد المومياء هو نَمذَجة لحضور الواقع فيه بأمانة وأن ازدواجية اللقطة في عرض الصورة وفي انطباع الحضور والغياب الذي تخلقه معا تشير الى طبيعة ثنائية الفيلم وطاقته الايحائية حيث تجعلانه مزيجا من الحلم والواقع في ان واحد وكما يقول الفيلسوف ستانلي كافيل  التصوير الفوتوغرافي يحافظ على حضور العالم من خلال غيابنا منه.

أندريه تاركوڤسكي •

كانت الواقعية خلال معظم مراحل تاريخ السينما، محط اهتمام صانعي الأفلام العمليين أكثر من اهتمام النقاد النظريين. فقد طوّر كل من دزيغا فيرتوف في العشرينيات في الاتحاد السوفييتي، وجان فيغو في فرنسا، وجون غريرسون في إنجلترا في الثلاثينيات، وروبرتو روسيلليني وسيزار زافاتيني والواقعيين الجدد في إيطاليا في الأربعينيات، مواقف في مواجهة النظريات التعبيرية. وبدا كما لو أن صانعي الأفلام وقفوا ضد سوء الاستعمال الممكن لقوة وسيطهم الفني، بدلاً من البحث عن المواقف "الأخلاقية" في الواقعية.
 كيف يجعل صانع الفيلم مادته تعني شيئاً، وما نوع المعنى الذي يشكله؟ ووجد المعنى عن طريق الأشياء التي يقدمها الفيلم لا عن طريق استخدام الأشياء للتعبير عن معنى ليس فيها. وإن رؤية الفنان يجب أن يؤكدها في اختياره للواقع وليس في تغييره لشكل الواقع.
وكما أن الشكليين أعتبروا "المونتاج" قلب المشروع السينمائي، فقد وجد بازان  في "الميزانسين" جوهر الفيلم الواقعي. وهو يعني بالميزانسين تحديداً، عمق مجال التحديد البؤري (عمق الميدان) أي  عمق المجال البصري الواضح في إطار صورة "اللقطة / المشهد" الذي يسمح للمشاهد بأن يشارك أكثر في تجربة الفيلم،  انطلاقا من مبدأ علاقة الفيلم الفنية بالمكان وعبر الحفاظ على زمن استمراريته. ورأى في تطور أسلوب "عمق الميدان"، ليس مجرد أسلوب فيلمي بديل، بل "خطوة جدلية متقدمة في تاريخ اللغة السينمائية".
ويلخص أسباب ذلك على الشكل التالي: عمق الميدان " يجعل المتفرج على علاقة بالصورة أوثق من علاقته بالواقع" (...) " فمادمنا نملك حرية الاختيار،  فإن لنا حرية التفسير". وبينما يتأتى على الواقعية الجديدة الآن أن تعيد إلى السينما إدراك الواقع وغموضه وفهمه، فعلى  شكل الفيلم ان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلاقات مكانية، أي ب(ميزان سين-المكان) هنالك، إذن، واقع واحد فقط لا يمكن تجاهله في السينما: واقع المكان، والمهم إلا يلعب في هذا الواقع الدور المهم في حضور الممثل وحده ، إنما يلعب فيه حضور المتفرج دوره أيضا. لهذا عد (ميزانسين- المكان) أساسا للفيلم الواقعي.
ويعود فضل اكتشاف المونتاج الداخلي/ العمودي/ "التزامني" ( لقطة طويلة في مشهد واحد Plan Sequence مستمر تتغير فيه الحركة والأحجام والزوايا داخل لقطة مكانية واحدة ذات زمن واقعي دون مونتاج) إلى أرسون ويلز، بالمعنى الذي بني عليه اندريه بازان نظريته المضادة للمونتاج الأفقي" التتابعي عند إيزنشتين"، وأنتصر بالتالي لأولئك المخرجين، ومنهم أيضا ويلز، لأنهم راهنوا على مرحلة بناء الفيلم أثناء مرحلة التصوير وليس أثناء مرحلة المونتاج بعد انتهاء التصوير.
ويعتقد اعداء المونتاج الذين عبر عنهم اندريه بازان أن هناك واقعاً واحداً فقط لا يمكن تجاهله في السينما، هو واقع المكان الذي يمكن عبره تقديم الواقع على سجيته. فحسب المعنى البازاني يبدو الميزان- سين أكثر أمانة للواقع وأكثر صدقاً من المونتاج. وحسب إيزنشتين يبدو المونتاج أكثر قربا للواقع لأنه إذ يقوم بتدمير الواقع فانه يقترب من الواقع ويهدف إلى إعادة بنائه لتتجانس فيه العلاقة المتبادلة والعضوية للوحدات المكونة له.
هل هناك من الناحية النظرية والعملية واقع يصنعه فقط الميزان- سين او هناك واقع يصنعه المونتاج فقط؟ وهل يكون الفيلم اكثر حياة واقوى مغزى اذا ما  كان مُمثلاً أو مُرتجلاً إذا ما حُفظ الزمن الواقعي فيه عبر مشهد مستمر (بلان سكوينس)؟ بينما تسجل السينماتوغرافيا الصورة في الزمن. وبرهنت بهذا على تدمير المفهوم التقليدي للزمن وجعلت جمهورها الغفير يراها مدرسة للحياة وليس مصنعاً للأحلام. فالناس تنظر إلى الأحداث على الشاشة بالضبط كما تنظر إلى الأحداث اليومية وتعتبر الفيلم مجرد وسيط يعيد إنتاج الواقع. فعلى صعيد المستوى التاريخي تكشف سبر تأثير ظهور الصورة بشكلها الحالي من منظور رغبة الإنسان في تصوير ألواقع مع مقارنة الصورة بفنون وآداب ألمحاكاة لإظهار كيف أن الصورة هي فن الإيهام بامتياز. لان المشاهد الذي يتابع مشاهدة الصور، يصدق ما يراه، ناسياً أو متناسياً وجود شاشة، تشكل حداً فاصلاً بين الواقع والخيال.